حديث مع وزير عراقي أقيل خلال ساعات!
(حديث مع وزير الكهرباء الأستاذ رعد شلال، قبل إقالته بساعة واحدة)
صائب خليل
7 آب 2011
أكتب هذه السطور وأنا في حالة دهشة وتساؤل، فقد فوجئت قبل قليل بما قد تكون أغرب إقالة لوزير، ربما ليس في العراق وإنما في العالم، حيث بدأ الأمر بتنبيه من وزير سابق إلى أن عقدين من عقود وزارة الكهرباء تم التعاقد وفقهما مع شركتين إحداهما تعاني من وضع مالي قريب من الإفلاس والثانية وصفت بأنها وهمية.
ما أثار دهشتي السرعة الكبيرة التي تم بها الأمر كله، فقد كتب الدكتور جواد رسالة التنبيه الموجهة للحكومة العراقية بخط يده في 2 آب، وتمت الإقالة السبت 6 آب، وإذا افترضنا جدلاً أن الرسالة وصلت المسؤولين في اليوم التالي لكتابتها، أي 3 آب، فقد تمت الإقالة خلال ثلاثة ايام من ضمنها يومي نهاية الأسبوع! هل صار العراق فجأة أكفأ دولة في العالم في سرعة التحقيق ومحاربة الفساد، أم هناك تفسير آخر؟
يوم الجمعة 5 آب قرأت رسالة الدكتور جواد في الإنترنت فاتصلت بالأستاذ رعد شلال، وزير الكهرباء، بحكم قرابتي به لأستفسر منه عن الموضوع، فقال أنه سمع بالأمر، ويعتقد أنه حملة سببها أنه تسبب في الإضرار بجهات متنفذة من خلال كشفه وإلغائه عدد من العقود المجحفة بالوزارة، لكن ذلك لا يهمه لأن العمل جار وفق الخطة وسوف يكتمل الكهرباء حسب الجدول الزمني الذي وعد به في نهاية الأمر، وان الموضوع يتعلق بعقدين ليسا ضمن الخطة الرئيسية لتجهيز الكهرباء، وحتى إن لم تنفذ الشركتان التزامهما فلن يكون لهما تأثير على المدى البعيد، وإن كان سيؤخر التزامات وزرارة الكهرباء بالنسبة لعام 2011، كما ان العقدين بالآجل، ولم تدفع أية مبالغ للشركتين. وحين اوضحت له أن الإعلام ينشر الخبر باهتمام وأن عليه أن يوضح وجهة نظره للناس، قال انه ينتظر إجتماع مجلس الوزراء يوم الثلاثاء لإيضاح وجهة نظره، ثم سيقترح على المجلس أن تتم مناقشة القضية بشكل علني في البرلمان او في مؤتمر صحفي.
في اليوم التالي، السبت، قرأت خبراً بأن النائبة حنان الفتلاوي، كشفت "عن ملفات فساد كبيرة في وزارة الكهرباء تقدر قيمتها باكثر من مليار و700 مليون دولار , مطالبة في نفس الوقت بمحاسبة الوزير وكل من تورط بقضايا فساد مالي في الوزارة." وأن الموضوع يتعلق بـ "شركتين وهميتين" وأنه :"تم الغاء العقدين مع الشركتين الوهميتين , ولكن يجب ان يتم محاسبة وزير الكهرباء رعد شلال ( القائمة العراقية ) وكل من تورط في هذه القضية".
ويقول الخبر معقباً: "لكن وبالرغم من التخصيصات المالية الاضافية للوزارة من قبل مجلس الوزراء لم تشهد الطاقة الكهربائية اي تحسن." (1)
كتبت للسيدة الفتلاوي، في خانة التعليقات وكنا قد تراسلنا بهذه الطريقة أكثر من مرة في موضوع المفوضية، كتبت أن معلوماتي بأن العقدين هما بالدفع بالآجل، فإن صح ذلك فليس هناك أي إمكانية لحالة فساد، فالمبالغ لن تدفع إلا بعد فترة من تسليم المولدات، وسألتها إن كانت قد سألت الوزير عن المعلومات قبل اتخاذ موقفها.
ولما تأخر الجواب، أتصلت بالأستاذ رعد وأبلغته بالتطور السريع وأن الموضوع ضمن اهتمام النائبة الفتلاوي وأنها تتهم الوزارة بالفساد وقالت بأن العقدين قد الغيا، ففوجئت بأن الوزير ليس له أي علم بالموضوع، وأن السيدة الفتلاوي لم تحاول على ما يبدو الإتصال بالوزارة للإستفهام، فاقترحت على الأستاذ رعد ان يتصل بها بنفسه ليوضح موقفه، قبل موعد اجتماع مجلس الوزراء، فوافق على الفكرة.
بعد ذلك طلبت منه المعلومات المفصلة عن الموضوع، وعن عمل الوزارة بشكل عام، وسألته إن كان يسمح بنشر تلك المعلومات، فقبل فوراً، وهو ما سأقدمه بلا تعليق أدناه:
عن العقدين، قال السيد الوزير أنهما ضمن ما أسماه "خطة الطوارئ" وهي خارج الخطة الأساسية لإعادة الكهرباء إلى العراق، وأن الغرض منها تحقيق زيادة ساعات الكهرباء لعام 2012، أما الخط الستراتيجي للعقود فسيبدأ الإستفادة منه عام 2013 وتصبح الشبكة نظامية عام 2014 بساعات كهرباء كاملة.
بالنسبة لخطة "الطوارئ" التي تمثل العقدين موضوع النقاش، قال طلبنا من الشركات الكبرى فرفضت، خاطبنا شركات كاتربيلر، مان، هيونداي و رولز رويس ولم تبد اهتماماً بالعمل بالآجل، وكان هذا أمر أساسي فليس لدى الوزارة مخصصات إضافية لهذا الأمر. وكانت محاولاتنا مع الصين بالنسبة للعقود الآجلة قد فشلت لتعقيد موضوع الدفع ولم نستطع أن نجد آلية نتفق عليها حوله.
لم توافق على الموضوع سوى شركتين ( CAPGENT الكندية و MBH الألمانية ) فأحيل العقدان لهما.
وحين سألته عن إمكانية الثقة بشركتين غير معروفتين قال الأستاذ رعد بأنه لم يكن لديه خيار، لأنه كان مطلوب منه تقديم تحسن خلال عام 2012، ولم تكن هناك مخصصات لذلك، فلم يبق سوى العمل بالآجل, وقال: "لم يكن لدي حل أفضل، والخيار كان أن اترك الموضوع أو اقبل بهاتين الشركتين، فإن نفذتا المطلوب منهما، كان خيراً وحصلنا على تحسن في الشبكة لعام 2012، وإن لم تفعلا، فسنلغي العقدين وكأنهما لم يكونا، وبدون أية كلفة إضافية.
وعن الإجراءات التي اتخذتها الوزارة لضمان سلامة الصفقة، قال أن الشركتين لا تنتجان المولدات بل تشتريانها من الشركات الكبرى، فتلك هي الوحيدة التي تنتج هذه المولدات، وبالفعل إتصلنا وعلمنا أن الشركة الألمانية متعاقدة مع كل من "رولز رايس" و "مان" وتوجهت الكندية إلى كاتربلر، التي اتصلنا بها للتأكد فقالوا أن الشركة الكندية مازالت تتفاوض معهم وان العقد معها لم يتم بعد.
إضافة إلى ذلك، فالمهم في العقود اكثر هو البنك الضامن. بالنسبة للشركة الكندية كان الضامن لها هو بنك التصدير والإستيراد الأمريكي (BANK Ex-Im)، أما الشركة الألمانية فكان الضامن لها هو بنك التجارة العراقي (TBI)، وبالتالي فالموضوع لا شائبة مالية عليه.
عدا هذا فالعقد ينص على أن تسليم قيمة العقد إلى الشركتين، لن تتم إلا بعد تسليم المحطات كاملة وتشغيلها لمدة سنة كاملة، وعندها يتم تسليم الشركة 50% من قيمة العقد، على أن يسلم النصف الثاني بعد السنة الثانية من التشغيل.
أخبرت الأستاذ رعد أن كل شيء يبدو لي سليم، إن كانت تلك الإجراءات قد اتخذت بالفعل، فما هو السبب في تلك الضجة إذن؟ فضحك وقال أعتقد ان البعض لم يفهم الموضوع، لكن بلا شك هناك من يتعمد الأذى. أما السبب فقال أن سياسة الوزارة تسببت في خسائر كبيرة لجهات قوية ومؤثرة مالياً وسياسياً، محلياً ودولياً.
وحين طلبت منه ان يشرح لي الأمر بتفصيل أكثر، قال:
أول جماعة تضرروا هم من يسمون جماعة "الإستثمار" ، وهي شركات لا علاقة لها بالإستثمار في الحقيقة، إنما تعمد إلى استعمال مكائننا وإكمال نواقصها ثم نشتري منهم الكهرباء بعقود طويلة. إنهم يقولون أنهم "يستثمرون" اموالهم في الكهرباء ومن هنا جاء الإسم.
أما قصة هؤلاء فهي كما يلي: الوزارات السابقة استوردت عدداً من المولدات من نوع "تورباين جنريتر" بطاقة كلية 3300 ميكاواط ، رغبة منها في حل مشكلة الكهرباء بسرعة. لكن التخصيصات انتهت ولم يكن لديهم ما يكفي لبناء المحطات اللازمة لتشغيل هذه التوربينات. فلجأوا إلى فكرة "الإستثمار".
وهذه تتلخص بأنهم عزلوا 22 تورباين منها، من نوع (GE) طاقة الواحد منها 125 ميكاواط تعطى لمستثمري القطاع الخاص على أن يدفع ثمنها بعد سبعة سنوات. ويقوم المستثمر ببناء المحطات اللازمة للتوربينات، ويبيع لنا الكهرباء بسعر 3,67 سنت للكيلو واط \ ساعة ولعقد مدته 25 سنة، ويكون تجهيز الوقود على حساب الوزارة.
هذا كان الحال في الوزارة السابقة. حين جئت إلى الوزارة، راجعت الأسعار ووجدتها عالية، وقررت مفاوضة "شركات الإستثمار" هذه، وتخفيض السعر إلى 3 سنت فقط. وحين عرضت الفكرة على المهندسين في الوزارة أعتبروا تلك فكرة طموحة توفر الكثير من المال، وقالوا بأن الشركات لن توافق على ذلك.
لكني عدت فسحبت أننا حتى في حالة سعر 3 سنت، فأننا نخسر كثيراً، وأن العقد مازال ظالماً حتى بـ 3 سنت، حيث أن الوزارة سوف تدفع لـ "المستثمرين" مبلغ نصف مليار دولار (500 مليون) في العام الواحد. وحسبت أن الوزارة تحتاج إلى 880 مليون دولار لكي تبني بنفسها المحطات اللازمة لتشغيل التوربينات الـ 22. ولم نكن بحاجة للمبلغ كله مرة واحدة، فيمكن تقسيم المبلغ على سنتين، كل سنة 440 مليون دولار.
إذن كان أمامي الخيار بين حلين: أما أن ندفع نصف مليار دولار كل سنة ولمدة خمسة وعشرين سنة، وفي نهايتها لا تملك الدولة شيئاً، فالمحطات تبقى للشركات. أو أن ندفع 440 مليون دولار لمدة سنتين، ونبني المحطات بأنفسنا وتبقى لنا. وهكذا قررت إلغاء التعاقد مع شركات الإستثمار، وخصصنا ما لدينا من تخصيصات لهذا المشروع (ومن هنا كنا مصرين على أن تكون المحطتين الكندية والألمانية بالدفع الآجل)، وبالفعل تمت إحالة المجموعة الأولى للتنفيذ وبأقل من الكلفة التخمينية (الـ 440 مليون دولار) التي قدرناها.
ومن الطبيعي أن هذا تسبب بفقدان شركات الإستثمار فرصة إثراء هائلة على حساب العراق.
أما على مستوى الشركات الكبرى، فأن الوزارة السابقة كانت تتفاوض مع شركة سيمنز لبناء 4 محطات مختلفة الحجم، وكان سعر سيمنز الكلي هو 1815 مليون دولار. ومع الإنشاءات المدنية يقدر أن تصل الكلفة للمحطات الأربعة إلى ما يقارب 2 مليار دولار.
بعد لقاءين مع سيمنز، أوقفت المفاوضات واتجهنا إلى الشركات الأخرى، وبالفعل تمكنا من إحالة أكبر تلك المحطات إلى شركة أوراسكوم بمبلغ 376 مليون دولار، ويقدر أن تصبح الكلفة الكلية للمحطات الاربعة بضمن الأعمال المدنية بحدود مليار ومئة مليون دولار، أي ما يزيد قليلاً عن نصف سعر سيمنز. وهكذا أغضبنا شركة كبرى..إضافة إلى ذلك فنحن بصدد مراجعة تسعيرات الصيانة لبعض الشركات، وكذلك بعض العقود السابقة وننوي مطالبة الشركات بإعادة أية مبالغ زائدة في عقود سابقة مجحفة.
وأما على المستوى الدولي، فقد وجدت الأسعار الغربية مرتفعة، فاتجهت إلى الشرق، إلى تركيا وإيران والصين..بالنسبة لتركيا والصين نحن مستمرين في تنفيذ مشاريع تم التعاقد معها مسبقاً، كما نحاول إعادة إحياء مشاريع متوقفة. لدينا مجموعة محطات "الخيرات" في كربلاء ، عشرة محطات بطاقة 125 ميكاواط للواحدة و "نينوى" في الموصل، ستة محطات من نفس النوع. وتنفذ الصين عقد محطات واسط بطاقة 2500 ميكاواط.
الصين لم نستطع الوصول معها إلى العمل بالآجل لتعقيد آلية الدفع، لكننا حصلنا على شروط تسهيلية مثل دفع رسالة الإعتماد بجزء من المبلغ فقط، ثم يعزز في كل سنة من سنوات العمل بالعقد، وهذا خلاف المعتاد من شروط وضع المبلغ كله في البنك مرة واحدة.
أما بالنسبة لإيران، فقد كنا نتفاوض مع شركة "الستوم" الفرنسية على محطة في المنصورية تتكون من أربعة مولدات بحجم 182 ميكاواط للواحدة. وفي زيارتي لإيران أبدت أستعدادها لبناء نفس المحطة بمبلغ يقل بمقدار 118 مليون دولار عن سعر "الستوم".
كذلك أتفقت معهم على شراء إجزاء تبديل (spare parts) بنصف السعر الذي تقدمه سيمنز و جنرال إليكتريك (GE).
وسألت الأستاذ رعد شلال عن موضوع الدفع لإيران، حيث أني قرأت خبراً يفيد بأن وزارة الكهرباء مدينة لإيران بمبلغ 200 مليون دولار لم تستطع دفعه بسبب إشكالات مصرفية، فهل تم تحقيق ذلك؟ فأجاب:
حتى الآن لم يتم ذلك، والمشكلة تتلخص بالشكل التالي. هناك شروط أن لا يتم فتح أي اعتماد إلا من خلال المصرف العراقي (TBI)، وهذا المصرف تم تأسيسه امريكياً، ويرتبط بما يسمى بالمصرف المراسل، وهو مصرف "جي بي موركان". وبسبب المقاطعة الأمريكية لإيران، فهي تهدد أي مصرف أمريكي يتعامل معها بالعقوبات، وبالتالي يرفض "جي بي موركان" أن يقوم بالتحويل من خلال المصرف العراقي المرتبط به، وهذه الحالة تشمل كل المصارف الأمريكية. ومن الغرائب في بنك التجارة العراقي، هو أن القانون يجبر الوزارات العراقية على وضع كل اموالها فيه، ولا يدفع لها أرباحاً، في الوقت الذي يشغل تلك الأموال بإرباح لحسابه، فيصبح من مصلحته أن يؤخر أو يعرقل المشاريع لأنها تسحب المال منه. لو كان هناك بنوك منافسة لكان الأمر مختلفاً، لكنه يحتكر التحويلات التي من مصلحته أن يعرقلها.
سألته: هل لمنع التحويل لإيران علاقة بقرارات مجلس الأمن بشأن إيران؟ وإن كانت المشكلة مازالت قائمة فكيف ستوقعون العقود المخطط لها مع إيران؟
فقال: المشكلة لم تحل بعد، ولا علاقة لها بمجلس الأمن أو الأمم المتحدة بل هي قرارات مقاطعة إقتصادية أمريكية فقط. أما الحل فقد اقترحت على مجلس الوزراء أن نتعامل مع بنك آخر فيما يتعلق فقط بالعقود الخاصة بإيران، وأنتظر نتيجة الإقتراح.
هذا ما كان من حديثي مع الأستاذ رعد شلال، وزير الكهرباء الذي تمت إقالته بسرعة مثيرة للدهشة قبل ساعات، وبدون استجواب، وهي مليئة بالأسماء والأرقام التي يمكن التحقق من صحتها بسهولة تامة لمن يريد. لم يكن الاستاذ رعد يعلم أثناء ذلك الحديث أن قرار إقالته كان قد كتب على عجل في مكان ما، وأترك حديثه بلا تعليق أمام القراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق