نقاش | عادل كمال | 2011/08/10
لا يوجد في الموصل سوى سبعة مبلّغين قضائيين، يعيشون تحت تهديد الضرب والاعتداءات المتكررة، فيما يشبههم البعض بـ "غراب البين" الذي ينقل الأخبار السيئة. مراسل "نقاش" رافق أحدهم في يوم شاق وطويل أمضاه في توصيل رسائل المحكمة.
احتاج سعيد أحمد إلى تمرير كمية كبيرة من الأدرينالين كي يتفاعل مع الموقف، فجرى مثل عدّاء هرباً من العصي والسكاكين التي شهرتها عائلة غاضبة من قرار حكم يدين أحد أفرادها.
يعرف أحمد نفسه بأنه "مبلّغ قضائي" أو "ساعي بريد المحكمة"، ويعمل في هذه المهنة منذ عقدين، وهو من بين سبعة آخرين فقط يتوقف عليهم سير الدعاوى في محاكم الموصل.
في صباح كل يوم ينقل أحمد ما يقارب 40 تبليغاً قضائيا إلى منازل ومقرات عمل المواطنين، بخصوص دعاوى مقامة أمام محاكم الجنايات أو الجنح أو البداءة أو الأحوال الشخصية.
انتشل أحمد مشهد العصي والسكاكين من ذاكرته القريبة، من بين المئات من المواقف الأخرى التي يقول بأنه واجهها في أعقاب انهيار الجهاز الأمني في مدينة الموصل بعد 2003، وهي مستمرة لغاية الآن كما يؤكد، رغم أن المدينة أشبه بمعسكر كبير للانتشار الأمني الكثيف في شوارعها.
التبليغات تتعلق بمواعيد جلسات المرافعات، أو قرارات الحكم الصادرة من إحدى المحاكم، أو إنذارت. ولأن جزءا كبيراً منها يتعارض مع مصلحة من يصل إليه التبليغ، فإنه يقوم بصب جام غضبه على أحمد وزملائه.
"كثيرا ما يتطور الأمر إلى الاعتداء بالضرب، دون أن نتمكن من تقديم شكوى، خوفاً من تداعيات ذلك"، يقول أحمد، ويتابع:
"الشرطة مشغولة بحماية نفسها بسبب الوضع الأمني في مدينة الموصل، وحوادث كثيرة جرت على مسافة قريبة من دورية أو نقطة تفتيش تابعة لهم، تسفر في أحيان عن سقوط ضحايا مدنيين، لكن لا نجد تدخلا من أحد".
"الشرطة لم تعد في خدمة الشعب"، يقول مبلغ آخر اسمه عدنان مضيفا: "نحن موظفون حكوميون، نتبع دائرة رسمية هي التبليغات القضائية، مكلفون بخدمة عامة، والاعتداء علينا يعاقب عليه قانون العقوبات العراقي".
ويعزو عدنان وقوع الاعتداءات المتكررة إلى جهل المواطنين بمهام المبلّغين، "لأنهم يعتقدون أنني طرف في النزاع حين آتي حاملا تبليغاً بإخلاء دار أو قرار إدانة".
رفض المبلّغين الذهاب إلى مناطق حدثت لهم أو لزملائهم مشاكل فيها في وقت سابق يمنع من وصول التباليغ أو يؤخره، وعليه، يتعطل سير الدعاوى ويضطر القضاة إلى إعادة التبليغ.
فبحسب القانون العراقي، يكون للتبليغات مدد محددة، وهي ثلاثة أيام من تاريخ صدروها لحضور جلسة مرافعة على سبيل المثال، فإذا تم التبليغ قبل يومين ترفض المحكمة ذلك أو يعترض الطرف المبلّغ، فيصار إلى إعادة التبليغ، مما يعني إضاعة مزيد من الوقت.
قلة عدد المبلّغين يحتم على كل واحد منهم أن يتولى إيصال عدد كبير من المظاريف الورقية، وقد يستغرقهم ذلك خمسة إلى سبعة ساعات بعد دوامهم الرسمي الذي ينتهي عند الثانية عشرة ظهراً.
فهناك أكثر من 163 حياً سكنياً في مدينة الموصل التي يناهز عدد سكانها المليون وخمسمائة ألف نسمة، وهذا يعني أن كل مبلّغ يقابله أكثر من 215 ألف مواطن.
المبلّغ أحمد، يقضي ساعات طويلة حاملاً حقيبة سمينة من الأوراق، في تجوال مستمر بعد ساعات الدوام الرسمي وحتى المساء، وهو يلتزم بإيصال جميع التبليغات إلى عناوينها، ويشكو من عدم صرف أجور النقل له أو أي مخصصات خطورة.
وفي المحكمة، يضيف أحمد، "لدينا غرفة بائسة، لا يزيد طولها عن ثلاثة أمتار وعرضها عن مترين، تختنق بنا نحن المبلّغين السبعة والمراجعين طوال ساعات الدوام الرسمي، وهي تفتقر إلى العناية، وتنقصها الكثير من الاحتياجات".
وفي جولة قام بها مراسل "نقاش" مع أحمد في منطقتين سكنيتين في الجانب الأيسر لمدينة الموصل هما الدواسة والنبي شيت، ظهيرة الرابع من شهر رمضان، كان أحمد شديد الحذر وهو يضغط على أزرار الأجراس، وفي حال تأكد من عدم وجود الكهرباء يطرق الأبواب طرقات خفيفة.
وأمام ستة أبواب وصلنا إليها كان المشهد يتكرر تقريباً. يخرج سيد أو سيدة بملامح منقبضة، تضاف إليها مسحة غضب مع معرفتهم بان الشخص الذي يقترب طوله من 190 سنتمتر، ويصل وزنه إلى 120 كغم مبلّغ قضائي.
مع ذلك سارت الأمور على نحو جيد، باستثناء رجل في عقده الرابع، قرأ ورقة التبليغ بتمعن، ثم قال وهو يمزقها إلى قطع صغيرة ويرميها في الهواء: "لن أطلقها حتى لو اعتقلوني بتهمة الإرهاب".
في أروقة محاكم استئناف نينوى، ذكر المحامي عدنان الجبوري، انه اضطر إلى إعادة التبليغ في دعوى مدنية مرات عدة، بسبب "عدم قيام المبلّغين بواجباتهم".
الجبوري أشار إلى أن جميعهم يتقاضون أجور نقل من المحامي لضمان إيصال التبليغ، وفي معظم الأحيان يتلقون أجرا شهريا أيضاً.
"ذلك ربما يعد نوعا من انواع الرشوة، لكنه أمر لابد منه، لأن المبلّغ سيتذرع بسهولة تامة بالوضع الأمني أو غلق الطرق، فنضطر لإعادة التبليغ" أوضح الجبوري، وهمس متابعا:
"بعض المبلّغين تم إغرائهم بالمال، فتورطوا في قضايا نصب واحتيال مارسها البعض، ببيع وشراء أملاك عائدة لأناس مسافرين خارج العراق".
دور المبلّغ هنا، كما يشرح الجبوري، هو إيصال تبليغ بدعوى تمليك عقار إلى عنوان منزل شخص، أقامها طرف على أساس انه مشتري لذلك العقار، وهو في الحقيقة متورط بجريمة تزوير، فيؤشر المبلّغ أن الشخص تبلغ أو أنه ترك العنوان إلى جهة مجهولة، وعلى أساس ذلك تطلب المحكمة تبليغه بالصحيفة، ليصار بعد ذلك إلى إصدار الحكم غيابيا بالتمليك.
القضايا التي اطلعت عليها "نقاش" في ملفات محاكم نينوى، تؤكد شيوع هذه الظاهرة في أعقاب 2003، عندما هجر الكثير من المواطنين منازلهم وتركوا محلات عملهم، فتم التلاعب بأملاكهم بهذه الطريقة، وقد أحيل عدد من المبلّغين المتورطين إلى القضاء.
العديد من المواطنين المهاجرين، اكتشفوا بعد عودتهم، أو بطريق الصدفة، أنهم باعوا عقاراتهم دون أن يكون لهم علم بذلك.
المبلّغ أحمد يصر على ان السبعة المتبقين في دائته، سيرتهم الوظيفية بيضاء، وهم لم يشتركوا أبداً في تزوير استلام التباليغ، لكنه لم ينكر أنهم يتقاضون مبالغ مقابل إيصال الرسائل، ويرى بأن ذلك "أخف بكثير من جريمة التزوير".
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق