السبت، آب ١٣، ٢٠١١

أفق العثمانية الجديدة

تؤكد كتب التاريخ إلى إن وراء تحول الدولة العثمانية من الفتوحات باتجاه الغرب واستدارتها نحو الشرق , ثلاثة أسباب أولهما تحول الموقف العسكري العثماني في الغرب من الموقع الهجومي إلى الموقف الدفاعي , والتغلغل العسكري الأوروبي في العالم العربي متمثلا بالغزو الاسباني والبرتغالي لكل من المغرب والخليج العربي , وثالثا نشأة الدولة الصفوية في إيران ومخاوف العثمانيين من طموحاتها باتجاه أسيا الصغرى ومن يقرأ التحول التركي الراهن نحو العالم الإسلامي بعد صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة , يجد تشابه مع الأسباب المذكورة بعد اليأس من قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي واحتلال القوات الأمريكية للعراق وأفغانستان , وصعود نجم الجمهورية الإسلامية الإيرانية وانتشار نفوذها من جمهوريات القوقاز إلى سواحل البحر المتوسط , وقد تمخض عن انتهاء الحرب الباردة تحرير تركيا من موقع الطرف الأقصى والبوابة الشرقية لحلف الأطلسي ( الناتو )في مواجهة الاتحاد السوفياتي , وقاد سياسيها الجدد إلى التنظير ورسم موقع عالمي جديد لتركيا تحتل فيه منطقة القلب وتكون إطرافه جمهوريات القوقاز ذوات الأرومة والأصل التركي وجمهوريات البلقان الأوروبية وبلدان العالم العربي . بدلا من القوة العسكرية المباشرة التي استعان بها السلطان سليم الأول في احتلال العالم العربي عبر معركة مرج دابق في سوريا ومعركة الريدانية في مصر , يطرح منظر العثمانية الجديدة وزير الخارجية احمد داود اوغلو في كتابه ( العمق الستراتيجي ) ستراتيجة القوة الناعمة في فرض القطبية التركية على المنطقة وتقديم الحلول السياسية والروابط الاقتصادية لنشر العلاقة التركية المميزة مع الإطراف التي أشار إليها اوغلو عبر مفهومه الشائع ( تصفير المشكلات ) , وقد نشطت التجارة التركية جنبا إلى جنب السياسة في تحقيق هذا المفهوم مع العالم العربي , من خلال معاهدة
الشراكة الستراتيجية مع سوريا , والتوسط في موضوع المفاوضات السورية – الإسرائيلية , والدخول على خط تشكيل الحكومة في العراق والتدخل في فض
نزاعات السياسيين العراقيين , ودعم حملة فك الحصار عن غزة التي لاقت استجابة عاطفية قوية من قبل الشارع العربي ,واتخاذ موقف مختلف عن حلف الناتو في بداية الأزمة الليبية . لاقت النظرية السياسية التركية قبولا كبيرا في العالم العربي على الرغم من طوباوية أطروحة داود اوغلو , والسبب الرئيسي هو الضعف الكبير للجسم العربي حتى بات العرب يمثلون حاليا الرجل المريض بالمنطقة قياسا بالقوة الإسرائيلية والإيرانية والتركية , حيث تركزت الأمنيات العربية في دعم إسلامي لمواجهة إسرائيل او توازن طائفي مع القوة الإيرانية , غافلين عن بديهية سياسية تنطبق مئة بالمئة على الطموح السياسي التركي وأولوية تركيا في نيل حصتها من تركة النظام العربي المريض , فتركيا عضو مؤسس وفاعل في حلف الناتو , وهذا الحلف ليس بالمنظمة الخيرية ,بل اثبت إصرار أقطاب الحلف وفي مقدمتهم الولايات المتحدة على توسعة وضم دول أوروبا الشرقية إليه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي , عن نية استعمارية لجعله اليد العسكرية الضاربة لنظام العولمة , وإصرار تركيا على البقاء جزء من الحلف بعد زوال الخطر السوفياتي , يؤشر حقيقة انخراط تركيا في نزاع مغانم مع حلفائها الأطلسيين , وقد ظهر ذلك جليا مع ما بات يسمى ب(الربيع العربي ) في التنافس الشديد خصوصا بالموضوعين الليبي والسوري) فرنسا ساركوزي ) عدوة تركيا اللدودة في الاتحاد الأوروبي , والمتطلعة لشغل الغياب العسكري الأمريكي لإعادة أمجادها الاستعمارية الغابرة في افريقيا وبلاد الشام , ويضيف المسعى التركي الجديد لتصليح العلاقة مع إسرائيل بعد
الخصومة التي تسبب بها القتل الصهيوني للمشاركين الترك في أسطول الحرية , اشارة إلى المعاناة التركية في تخطي حلفائها الأطلسيين , والتي تمثلت في إصرار إسرائيلي على رفض تقديم الاعتذار لتركيا , ودخول اليونان خصم
تركيا التاريخي على الخط لمد يد التحالف مع إسرائيل والتطوع في منع أسطول الحرية الثاني من التوجه إلى غزة .
قد تختلف ارادة قادة حزب العدالة والتنمية عن ارادة قادة الجيش التركي , وقادة الحزب على وعي بالمردود السلبي للتصعيد العسكري في المنطقة , والذي سيعيد خصومهم العسكريين إلى واجهة المشهد السياسي التركي مما ينعكس سلبا على الملفات التركية الداخلية ,ولكن الاندفاع التركي الجديد
وفق الوصفة (الاوغولية ) يقترب من واقع القفزة الطويلة في الهواء , بناءاً على الماضي القريب لتركيا والذي اتسم بإستراتيجية انعزالية عن المنطقة تزامنا مع تأسيس الجمهورية التركية على يد كمال أتاتورك , وقد ظهرت إحداث العالم العربي الأخيرة مشاهد الحيرة والارتباك التركي سواءا يتناقض الموقف بين ما يحصل في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا ,او باللغة التي خاطب بها قادة الحكومة التركية الرؤساء العرب المعنيين والتي شابها الانفعال والتسرع وقلة الدبلوماسية . مما يعيد السؤال إلى الجرح التركي الاعمق , جرح الهوية والانتماء الذي ما انفك يطارد الستراتيجيين الأتراك في صلب علاقاتهم بالعالم الخارجي


المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق