الخميس، آب ٢٥، ٢٠١١

تساؤلات حول دور المجتمع المدني

في مقالة له بعنوان "هذه المنظمات التي مهّدت للثورة" "Ces organisations qui ont préparé la révolution" في صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية في تموز/ يوليو الماضي، اعتبر الصحافي الفرنسي ألآن غريشAlain Gresh أن تكاثر منظمات حقوق الإنسان وتلك التي تهتمّ بالأشخاص الذين يفتقرون إلى مأوى أو بالنساء وغيرها، أسهمت في استقلال المجتمع عن الدولة البوليسيّة في مصر. فيما ردّ كثر أسباب التحركات في مصر أو غيرها من البلدان العربيّة إلى التطوّر التكنولوجي المتمثّل بالإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة. لذا سيتمّ التركيز هنا على ما قاله غريش، لكن عبر تعميم مقولته على العالم العربي، وذلك بالانطلاق من طبيعة المجتمع المدني العربي.
لطالما اعتبر العمل الخيري القاعدة الأساسيّة لنشأة الجمعيات في العالم العربي والإسلامي تماشياً مع المبادئ الدينية التوحيدية التي تحضّ على التكاتف الاجتماعي والتكافل بين أفراد المجتمع. وفي الإسلام تجلّت حكمة مشروعيّة الوقف في مساعدة الموقوف عليه وحفظ كرامته والتقرّب من الّله عزّ وجل. إذ يعتبر الوقف الإسلامي الخيري دعامة للتكافل الاجتماعي، ووسيلة من وسائل علاج مشكلة الفقر في المجتمع، لأن ريعه يعتبر صدقة جارية لا تنقطع، تدرّ الثواب المتصل على الواقفين، وعملاً صالحاً يدرّ الخير الوافر على المحتاجين والمستحقين. وتعود بدايات الأوقاف إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومنها وقف النبي لمسجد قباء عند قدومه مهاجراً إلى المدينة، ووقف النبي لسبعة حوائط(بساتين) في المدينة كانت لرجل يهودي...ثم كثرت الأوقاف في العصر الأموي حيث أنشئت إدارة خاصة للإشراف على الأوقاف في زمن هشام بن عبد الملك، وازدادت توسعاً في العصر العباسي وكان يتولّى ديوانها مَن يطلق عليه( صدر الوقف)، كما اتسعت الأوقاف في عهد المماليك وكثرت كثرة ملحوظة واتسع نطاقها. وقد اعتنى السلاطين العثمانيون بالأوقاف بدرجة ملحوظة، وتوسعت مصارف ريع الوقف لتشمل كليات الطب والخدمات الطبية لمستشفيات قائمة، مواكبةً للتطور والتقدّم العلمي في العصورالحديثة(الوقف في الإسلام: نظام عظيم لا تعرف له البشرية مثيلاً، من knol.google.com).
بين الخيري والتنموي...
 تغيّر مفهوم التنمية في العقود الأربعة الأخيرة، ولاسيما مفهوم التنمية البشرية الذي لم يعد يحصر مسألة التنمية بنموّ معدلات الدخل، بل بتوسيع نطاق القدرات البشرية إلى أقصى حدّ ممكن وتوظيفها أفضل توظيف في جميع الميادين. ومع هذه التغيّرات، ازداد عدد الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني في البلدان العربيّة، حتى في تلك التي لا يزال العدد فيها منخفضاً مثل دول الخليج بعامةً: فقد بلغت أعداد الجمعيات والمؤسّسات الأهلية38500 في المغرب،  27068 في مصر، 9065 في تونس، 5669 في العراق، 3360 في لبنان، و1000 في الجزائر. وباستثناء اليمن التي بلغ عدد الجمعيات والمؤسّسات الأهلية فيها 6600 جمعية ومؤسّسة، شهدت بلدان الخليج العربي انخفاضاً في عدد هذه الجمعيات، حيث بلغت 450 في البحرين، 440 في السعودية، 126 في الإمارات، 66 في الكويت، 17 في قطر(قنديل، أماني، مؤشرات فاعلية منظمات المجتمع المدني العربي،  الشبكة العربيّة للمنظمات الأهلية، 2010).
وممّا لا شكّ فيه أن هذه التنظيمات والجمعيات هي التي فعّلت مظاهر المجتمع المدني الحديث في  السنوات الأخيرة، لكونها ولدت أو تطوّرت في سياق اجتماعي اقتصادي لا يسمح باعتبار المجتمع المدني الراهن امتداداً للمجتمع الأهلي وجمعياته أو عناصره الأخرى التي تشكّل منها المجتمع الأهلي في التاريخ العربي المعاصر. وهذا مع الإشارة إلى أن عمل هذه الجمعيات لا يزال يغلب عليه في الوقت الراهن الطابع الخيري(في مجال مساعدة الفقراء والفئات المحتاجة وتقديم مساعدات مالية أو عينيّة لهم)، أو الرعائي(رعاية فئات محدّدة مثل كبار السنّ والأيتام والمعوّقين..). إذ إن المنظمات ذات الطابع التنموي(توفير عناصر القوّة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمواطنين ودمجهم في عملية التنمية البشرية) أو الحقوقي(المنظمات التي لا تقدّم خدمات بل تركّز على الدفاع عن حقوق معيّنة وتستهدف التوعية والتثقيف للتأثير في السياسات العامة) لا تزال محدودة على الرغم من تزايد أعدادها في الدول العربيّة بعامة. وهي لا تزيد في أفضل الأحوال عن 25 % من إجمالي المنظمات في مصر ولبنان والأردن والمغرب، وتقلّ في دول الخليج كالإمارات واليمن. ناهيك بالعلاقة المستقرّة إلى حدّ ما بين المنظمات التطوّعية غير الربحية التي يتشكّل منها المجتمع المدني من جهة والحكومات من جهة أخرى، خصوصاً أن غالبية هذه المنظمات تتوجّه إلى الحكومات لتوفير الدعم المالي لها.
بعض ملامح منظمات المجتمع المدني العربي
من أبرز الملاحظات التي دعمتها دراسة الشبكة العربية للمنظمات الأهلية: أن تداول السلطة في مواقع مجالس إدارة المنظمات الأهلية في العالم العربي محدود للغاية، وأن إدارة الاختلافات أو الصراعات اعتمدت بشكل أساسي على الحوار والمناقشة، بينما كان الاحتكام للنظام الأساسي وقواعد القانون هو الأقل قبولاً كاتجاه عام في عيّنة المنظمات العربيّة، وكذلك التصويت. في حين كان قصور الشفافية الأكثر وضوحاً، فضلاً عن أن توظيف التكنولوجيا لم يتمّ بالشكل الذي يسمح بالنهوض بمجمل أداء منظمات المجنمع المدني.
ولئن كان مفهوم المجتمع المدني الأكثر شيوعاً من الناحية النظرية هو تمييزه عن الدولة، بوصفه مجالاً لعمل الجمعيات التطوّعية وغيرها من الجمعيات والاتحادات ذات الطابع الاجتماعي أو الحقوقي، ولئن كان من المفترض على المجتمع المدني، من الناحية النظرية أيضاً، أن يكون قوّة مضافة إلى الأحزاب السياسية للمطالبة بالإصلاح والتغيير من دون أن تكون بديلة منها، فإن السائد في البلدان العربيّة بعامة هو احتواء المجتمع المدني من قبل الدول. وقد بيّنت دراسة الشبكة العربية للمنظمات الأهلية من خلال العمل الميداني بطلان فرضية وجود صراع وتوتر دائم بين المنظمات التطوّعية غير الربحية من جهة، والحكومات العربية من جهة ثانية. إذ ثمة وزن نسبي كبير بحسب ما توصّلت إليه نتائج الدراسة للمنظمات التي تدخل في علاقات تعاون وتنفيذ مشروعات مع الحكومات العربيّة، فضلاً عن التموّل منها.
لذا أكّد الدكتور محمد عابد الجابري، في مقال له بعنوان "عوائق بنيوية أمام التحوّل الديمقراطي" http://www.mokarabat.com/m524.htm))، أن لكلّ مجتمع نخبة مدينية تقوده وتكون صنيعة موروثه الحضاري وتفرض هيمنتها الاقتصادية والثقافية على المجتمع ككلّ. إلا أن هذه النخبة غير موجودة في الوقت الراهن، حتى ولو كانت هناك نخبة مدينية في هذا القطر العربي أو ذاك تصف نفسها بـالمجتمع المدني. ذلك لأنها لا تمارس ما هو ضروري من الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتتحول فعلاً إلى مجتمع مدني قادر على القيام بدوره التاريخي كقاطرة للإصلاح والتغيير في المجتمع ككلّ.
ثم تأتي إفادة منظمة "الشفافية الدولية"، في تقريرها لهذا العام، لتؤكّد أن أكثر من ثلثيّ دول العالم، تعاني من فساد خطير في القطاع الحكومي، وأن "أداء الدول العربية لم يتغيّر كثيراً عنه في العام الماضي"، وأن العلاقات التي تسود بين منظمات المجتمع المدني ومؤسّسات الحكومة هي صفقات تجارية شخصية.
في المقابل، الكاتب التركي تيمور كوران Timur Kuran، وفي مقال له في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان "The Weak Foundations of Arab Democraty""، نشر في 28 أيار/مايو الماضي،  يفنّد الدور الهامشي والضعيف للمنظّمات غير الحكوميّة في الانتفاضات العربية، بالقول إن العالم العربي لم يعرف جمعيات غير حكومية تكون وسيطاً بين الفرد والدولة، وإن هذا الضعف المزمن في المجتمع المدني يشير إلى أن ديمقراطيات عربية قابلة للحياة، أو قادة يمكن أن يكونوا على رأسها، لن يظهروا في أي وقت قريب، وبأن النتيجة الفورية الأكثر احتمالاً للاضطرابات الحالية، هي مجيء مجموعة جديدة من الحكام المستبدين أو أنظمة الحزب الواحد.
ما النتيجة إذاً ...
بين اتجاهات ترى للمجتمع المدني ومنظماته دوراً في الانتفاضات أو الثورات العربيّة وتلك التي لا ترى له-أي للمجتمع المدني- هذا الدور، لربما أنه من المفيد طرح السؤال الآتي: إذا كان هناك اتّجاه أو فلسفة لا تفترض ضرورة أن تكون العلاقة بين المجتمع المدني والدولة علاقة تصادم وتعارض بالضرورة، بل علاقة تصالح وتفاهم غايتها التكامل، وإذا كان المجتمع المدني في هذا السياق عبارة عن  قوة اقتراح لا تستطيع الدولة أن تتجاوزها، ولا يستطيع هو في المقابل أن يقوم بدوره على أكمل وجه من دون أن تستجيب الدولة لمطالبه- ما يعني أن حلّ التناقض بين الدولة والمجتمع المدني يتمّ باستخدام الضغوط السلمية المدنية بغية بلوغ التغيير السلمي والموضوعي- فهل يكون للمجتمع المدني ومنظماته، حتى ولو كان سلمياً ومتآزراً مع دور الدولة، أيّ دور في إحداث تغيير في ظلّ علامات الاستفهام كلّها التي تُشاع عن مسلكيته في العالم العربي؟

المصدر : مؤسسة الفكر العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق