نقاش | وحيد غانم | 2011/08/10
هناك اعتقاد سائد في العراق أن أرض البصرة حيث يلتقي نهري دجلة والفرات، هي جنة عدن المذكورة في القرآن الكريم، وأنها الموطن الأول للإنسان على الأرض. لكن فلاحي المحافظة (590 كم جنوب بغداد) بدؤوا يخسرون هذه الاعتقاد شيئا فشيئا بعد أن ابتلعت الحروب الثلاثة جزءا يسيرا من أراضيهم ومزارعهم وبساتين نخيلهم، فيما تولّت الملوحة والجفاف القضاء على القسم آخر، وحولته إلى صحراء أو مباني سكنية.
وبحسب بيانات رسمية، فإن سبعين بالمئة من الأراضي الصالحة للزراعة في سبعينات القرن المنصرم خرجت اليوم من الخدمة، في حين انخفض معدل تساقط الامطار إلى سدس معدل التساقط في السبعينات، مهددا البصرة بالتحول إلى منطقة صحراوية.
محسن عبد الحي دشر، مستشار محافظ البصرة للشؤون الزراعية، يرى أن التغير المناخي الذي شهده العراق في السنوات الأخيرة لعب دورا حاسما في تراجع الإنتاج الزراعي.
وكشف دشر في تصريح لـ "نقاش" عن تراجع المساحات المزروعة بالحنطة في 2010 بمقدار الربع عن العام السابق في مناطق شمال البصرة، إذ بلغت 44 ألف دونما، بفعل موجة الجفاف.
أما فلاحو المحافظة، فلا يترددون في وصف أراضيهم بالـ "منكوبة". فانخفاض معدلات الامطار تكاتفت مع السياسات المائية لدول الجوار لتقضي على ما تبقى من آمالهم.
فالبالكاد تفي كميات المياه الواردة من نهري دجلة والفرات بحاجة 20% من احتياجات القطاع زراعة النخيل والخضروات، في ظل رفض تركيا زيادة حصة العراق المائية.
أما إيران، الجارة الشرقية للعراق، فأقامت هي الأخرى العديد من السدود المائية على نهر كارون الذي يصب في شط العرب وحولت قسما من مجراه إلى داخل الأراضي الإيرانية.
عابد مهدي صاحب بستان نخيل في قضاء الفاو وصف ما يحصل بأنه "مجزرة بحق مزارعي البصرة". وقال هذا الشاب الذي ورث بستانه عن أبيه إن "ملوحة مياه شط العرب ترتفع بعد انخفاض منسوب المياه العذبة فيه، وكذلك ملوحة الأقنية والجداول التي تسقي الأشجار".
وفي آخر إحصائية صدرت عن مديرية الزراعة في البصرة 1989، بعد عام من توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية، قُدّر عدد أشجار النخيل بمليون وتسعمائة ألف نخلة نصفها تقريبا غير منتج، بعد أن كانت تناهز 13 مليون نخلة في 1977.
ويؤكد فلاحون ومختصون تناقص عدد أشجار النخيل بعد 2003، بفضل ازدياد نسبة الملوحة، وانتشار الآفات الزراعية.
فمن أصل ستمئة شجرة نخيل كان يمتلكها، خسر المزارع عابد مهدي حوالي ستين نخلة في العامين الماضيين، فيما أشار إلى أن المزيد منها تمرض وفي طريقها للموت.
وفضلا عن السياسات المائية لدول الجوار، تعرض الفلاحون لصدمة قاسية في 2003، بعد رفع الدولة دعمها وحمايتها عنهم. فالمحاصيل التي ما زال بالإمكان زراعتها في البصرة تتعرض لمنافسة شديدة من الجار الإيراني على وجه الخصوص.
وفي كل يوم تعبر مئات الشاحنات المحملة بالخضار والفواكه وأنواع التمور من معبر الشلامجة الحدودي (30 كلم شرق البصرة) إلى أسواق المحافظة، وتهدد المحصول المحلي بالكساد.
مدير زراعة قضاء الزبير صالح حسن لعيبي اشتكى من عدم حماية الدولة للمنتج الزراعي. وقال لمراسل "نقاش" إن "مزارع الزبير انتجت ربع مليون طن من الطماطم في هذا العالم، وهو منتوج جيد لكننا نواجه مشكلة في التسويق".
المزارع سلمان الصالحي من قضاء الزبير يضيف من جهته أن البصرة كانت تغذي العراق بمحصول الطماطم طيلة سبعة اشهر متتالية من السنة، "لكن الحكومة لم تعتبر الطماطم من المحاصيل الستراتيجية وبالتالي لم يتم دعمها، لهذا تعرضنا للخسائر منذ 2003 حتى الآن".
وأوضح هذا المزارع أن "البذور لا تتوفر كما في التسعينات من مناشىء عالمية كالفرنسية والهولندية، وكميات الأسمدة ايضا قليلة وتصل متأخرة".
علاء هاشم البدران نقيب المهندسين الزراعيين في البصرة يجادل في أن أحد أوجه المشكلة الزراعية في البلاد عموما هي "الانتقال الحاد من نظام اشتراكي مركزي موجه إلى نظام رأسمالي حر مع احتفاظ الوزارات ببيروقراطيتها القديمة".
فقبل عام 2003، كانت الدولة تشتري سعر صندوق الطماطم وزن 30 كلغم، بـ 15 ألف دينار (حوالي 12 دولار أمريكي) أما الآن فيباع للتجار بـ 3000 دينار (حوالي دولارين).
ووصف البدران الفرق بين السعرين بالـ "الصدمة المفاجئة"، تعرض لها المزارعون.
مديرية الزراعة تصف الدعم الذي تقدمه الحكومة بـ "غير المحسوس". وتقول في تصريحات سابقة إن "مبالغ الدعم للفلاحين وصلت الى 60% في البذور والأسمدة ، لكن هناك ارتفاعا في أسعار المواد التي تشتريها الوزارة".
كما تشير المديرية إلى توفيرها قروض ميسرة لاستثمار الأراضي الزراعية، لكن محسن عبد الحي دشر، مستشار محافظ البصرة للشؤون الزراعية أقر بأن "لجان المتابعة في دائر المفتش العام لا تستطيع الالمام بمصير جميع القروض الزراعية واستخدامها على الوجه الأمثل، بسبب نقص الكوادر".
في وجه آخر للأزمة، يبتلع الزحف السكاني مساحات زراعية واسعة من المحافظة.
فبعد أن جرّف نظام صدام حسين آلاف الدونمات المزروعة بالنخيل والخضروات واسبتدلها بزراعة الألغام، عملت موجات نزوح الفلاحين من الأهوار والمحافظات الجنوبية على تحويل المزيد من تلك الاراضي إلى مشروعات سكنية.
وبحسب دشر، فإن حوالي مليون نسمة من أصل 2.7 مليون هم عدد السكان، نزحوا من الأهوار والمحافظات الجنوبية الأخرى، وتركوا أراضيهم تواجه مصير الإهمال.
ويعزو دشر أسباب تلك الهجرة إلى أن البصرة "جاذبة اقتصادياً" تتركز فيها معظم المشروعات الصناعية والتجارية في المنطقة الجنوبية.
وللحد من تآكل تلك المساحات، فعـّلت الحكومة المحلية قوانين منع تجريف الأراضي الزراعية.
ويقول دشر إن "القانون رقم 9 و 10 لسنة 1988 ينص على مصادرة جميع الاراضي الزراعية التي تتعرض للتجريف وتعاد لوزارتي المالية او الزراعة".
لكن مسؤولي الوحدات الإدارية، يتابع دشر "لم يستجيبوا حتى الآن للتعليمات بسبب ضغوط سياسية واجتماعية يتعرضون لها وتدخلات من بعض المتنفذين والمستثمرين".
وبحسب المستشار، فإن المشكلة تزداد صعوبة عندما نعلم أن معظم البساتين في أبي الخصيب وقضاء شط العرب يملكها مواطنون عرب من الكويت والسعودية، ولا يجري استثمارها زراعيا.
وعليه "فلا بد من إرغام أصحاب البساتين العرب على إدارتها وإلا تعاد للدولة العراقية، وهذا يتطلب تحرك من وزارة الخارجية" يقول المستشار.
في ظل هذه الصورة القاتمة، يتفق معظم الخبراء على أن إنقاذ الزراعة يبدأ أولا من "تجنب المشاريع غير المدروسة" التي تعلن عنها الحكومة بين الفينة والأخرى.
ويطرح نقيب المهندسين الزراعيين أمثلة عديدة عن مشروعات لم تؤتِ ثمارها، نتيجة سوء التخطيط وعدم اشراك النقابات والجمعيات الفلاحية.
من هذه المشاريع واحد طرحته الحكومة بتمويل من الدول المانحة في العام 2006، جرى من خلاله توزيع 140 ألف فسيلة نخل بصورة مجانية على المزارعين، و آخر لزراعة اشجار الحناء، وكلا المشروعين لم يحققا هدفهما بسبب مشكلة الملوحة والاختيار الخاطئ لمنطقة المشروع.
النقيب يرى أيضا أن لا مناص من تجاوز البيروقراطية في الدوائر الزراعية، ومواجهة الفساد بتدوير المسؤوليات وتجديد الدماء، "فهناك مسؤولون في الدوائر الزراعية مضى على وجودهم مع بطانتهم اكثر من ثلاثين عاما في الموقع نفسه".
ويقترح النقيب إشراك القطاع الخاص في مشروعات كبيرة تدار من قبله، وتشرف عليها الدولة. قائلا إن "المستثمرين الأجانب يجدون صعوبة في العمل حاليا بسبب الإجراءات البيروقراطية".
وأضاف أن "قسم الاسماك في كلية الزراعة يخرج سنويا 30 أو أكثر من المختصين فيما يتطلب إنشاء مشروع مزرعة أسماك سنوات للحصول على موافقة وزارة الزراعة".
من جهته، كشف مستشار المحافظ عن خطط لدى الحكومة المحلية في إنشاء مختبرات للنخيل وإدخال المهندسين دورات متخصصة، فضلا عن إدخال نظام المكافحة الحيوية للآفات الزراعية، وإدخال سلالات الطماطم المقاومة للجفاف والملوحة.
ويقول دشر أن "الحل الوحيد لإنقاذ ما تبقى هو التوجه نحو التخصص المناطقي ودراسة مشكلة كل منطقة على حدا".
أما أزمة المياه "فهي سياسية بالدرجة الأولى والبصرة لا يمكنها أن ننتظر". مضيفا أن "علينا انقاذ زراعتنا واعتماد تقانات ري حديثة وبيوت بلاستيكية، باعتبار أن وحدة المساحة اصبحت محدودة".
ألمصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق