الاثنين، أيلول ٠٥، ٢٠١١

مستقبل الصحيفة الورقيّة

السؤال ليس ما إذا كانت الصحف الإلكترونية تنافس الورقية، لأن الجواب بات بديهياً، وذلك منذ أن تنبأ الباحث الألماني فيليب ماير Philip Meyer ، من "المعهد الألماني لأبحاث الميديا والاتصالات"، في كتابه المعنون "'The Vanishing Newspaper(2004)، بزوال الصحافة المكتوبة (التقليدية) في مطالع العام 2040. إذ بلغت معدلات نموّ استخدام الإنترنت من العام 2000 ولغاية العام 2011 نحو 480.4 % في العالم بأسره، منها 2,527.4 % في أفريقيا، 706.9 % في آسيا،353.1  % في أوروبا، 1,987.0 % في الشرق الأوسط، 151.7 % في شمال أميركا...إلخ.(بحسب آخر إحصاءات تعود  إلى أيار/مايو 2011، المصدر: www.internetworldstats.com).
 أما في العالم العربي، ومنذ أن أنشأت "مؤسّسة التحرير للطباعة والنشر" أول موقع عربي لها على شبكة الإنترنت في العام1997 ، حين لم يكن عدد مستخدمي شبكة الإنترنت يتجاوز آنذاك الـ 600 ألف مستخدم، تزايد عدد هؤلاء ليبلغ في العام 2007 نحو 29 مليون مستخدم، أي بمعدل زيادة بلغت نسبته 8.7 % من إجمالي عدد السكان العرب، وذلك على الرغم من أن معدلات الاستخدام هذه، وفي أغلب هذه الدول، هو دون معدل النسبة السائدة في العالم، أي 21 % من السكان(تقرير  المعرفة العربي للعام 2009 ، مؤسّسة محمد بن راشد المكتوم). وفي موازاة ذلك ارتفع عدد مستخدمي الّلغة العربية على شبكة الإنترنت بين العامين 2000 -2008 ليكون الأعلى بين مجموعة الّلغات العشر الأولى، إذ بلغ بحسب المصدر السابق نفسه 2064 % ، فيما بلغ مثلاً، متوسط عدد عمليات البحث والتواصل الرقمي مع الصحافة (صحف ومجلات) خمسة ملايين و456 ألفاً و633 عملية شهريّاً(التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، مؤسسة الفكر العربي،2010).
من جهة أخرى، وفي تقريرها السنوي "أبرز 10 توقعات في المنطقة"، توقعت شركة IDC العالمية للأبحاث نموّ حجم الإنفاق على تقنية المعلومات والاتصالات للعام 2011 في منطقة الشرق الأوسط وتركيا وأفريقيا. ومن أبرز ما جاء في التقرير أن الإنفاق على تقنية المعلومات في منطقة الشرق الأوسط وتركيا وأفريقيا سيتخطّى حاجز الـ 60 مليار دولار أميركي في العام 2011، وأن الأسواق الكبرى كافة في بلدان المنطقة ستسهم بشكل كبير في هذا النموّ. إذ من المتوقع، بحسب التقرير، أن تنمو السوق في منطقة الشرق الأوسط بنسبة 14.4% بقيادة النموّ القوي في دول مجلس التعاون الخليجي، وأن  المملكة العربية السعودية والإمارات - أكبر أسواق دول مجلس التعاون الخليجي- ستواصل نموها بقوة، حيث ستشهد نمواً بنسبة تزيد على 15% في العام 2011، مدفوعةً بشكل رئيسي من قبل الاستثمارات المتواصلة في القطاع العام والتعافي القوي في القطاع الخاص مع عودة التحسن للبيئة الائتمانية والاستهلاك المتزايد للمنتجات والخدمات.
في ظلّ كلّ هذه المعطيات، لم تتوقف الأدبيات التي تتنبأ بالخطر الذي يتهدّد الصحافة الورقيّة، بعدما تشابهت عناوينها، مثل "ثورة الإنترنت ومستقبل الصحف المطبوعة الإلكترونية في العالم العربي"، "الصحافة الورقية في ظلّ الثورة الرقمية"، "تحديات الإعلام الإلكتروني"، "المستقبل يشير إلى تقدم الصحافة الإلكترونية وتراجع الورقية"، "بداية انهيار الصحافة الورقية"...إلخ. أما الكلام على متعة الصحافة الورقية وألقها وملمسها ورائحتها فهو من دون شكّ سيغدو كلاماً رومانسياً فيه من النوستالجيا أكثر ما فيه من واقعيّة، خصوصاً مع ما بدأنا نشاهده من وسائل تقنية جديدة منذ مطلع العام 2010 مثل الّلوائح التي تعمل بالّلمس شأن الـ iPad و ExoPCو HPSlate وسواها.
المسألة ربما محسومة.. لكن...
المهمّ أن الاطلاع على تاريخ الاتصالات لا يظهر أن اختراعاً جديداً ألغى ما سبقه. فما يتغيّر فعلياً هو أدوات الإنتاج وأنماطها، بحيث إن ظهور الراديو والتلفاز لم يلغِ الصحافة المكتوبة، بل أثّر في مستقبلها. ظهور التلفزيون مثلاً، كمصدر جماهيري للأخبار والترفيه أدّى، بحسب البعض، إلى "اختفاء العديد من المجلات ذات الاهتمام الواسع والعام والضخم ومهّد الطريق في الوقت ذاته أمام عدد أكبر من المطبوعات المتخصّصة في الظهور. والتاثير ذاته حدث بالنسبة إلى الراديو، فقد تأثر هو الآخر بظهور التلفزيون، والنتيجة تمثلت في ظهور أو إنشاء مزيد من محطات الراديو المتخصّصة. وبالنسبة إلى التليفزيون ذاته، فقد أدى ظهور خدمات الكابل التلفزيونية الكبرى إلى بداية ظهور عديد من الشبكات التلفيزيونية المتخصّصة. وكما هو الحال أيضاً في النشر الإلكتروني فهو لم يؤد إلى الحصول على مستويات أعلى من الجودة في المطبوعات فقط، بل أدّى أيضاً إلى حدوث انفجار في عدد النشرات الإخبارية والمجلات في كلّ أنحاء العالم")الإعلام الإيكتروني ومستقبل الصحافة المطبوعة في العالم العربي2009  (khaledfayyad.blogspot.com
وإذا كان من مزايا الصحيفة الورقية أنها تقدّم راحة أكبر ومرونة ملحوظة لدى القراءة بسبب من طبيعتها السهلة الاستخدام وبسبب إمكانية قراءتها بشكل لا يزعج العينين مقارنةً بالشاشة، فإن العمل جارٍ من جانب الباحثين على ما يمكن أن يعوّض عن ذلك كلّه. بحيث تقوم مختبرات "Massachusets Institute of Technology" (M.I.T.) في الولايات المتّحدة الأميركية بصناعة ورق رقمي مجهّز بذاكرة وبوصلات معيّنة. أي ورقة واحدة فقط لا غير، تسمح، وبشكل عملاني، باستقبال صحيفة متجدّدة في كلّ يوم  أو في كلّ ساعة، يمكنها أن تختزن كلّ المعلومات التي يتمّ تلقيها. أما في اليابان، فوضعت شركةSharp حاسوباً للجيب تحت مسمّى Zaurus يسمح بقراءة مقتطفات من صحيفة Mainichi Shimbun اليابانية تعود إلى العام 1996 ، وكذلك فعلت مؤسّسة FujiSanke بتصميمها حاسوباً للجيب بطول 15 سنتمتراً يسمح بقراءة صحيفة Sankei Shimbun اليابانيّة.
وفي سياق نقده لما آلت إليه أوضاع التلفاز بسبب تنوّع محطات التلفزة وانتشار الفضائيات، اعتبر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديوPierre Bourdieu  في كتابه "عن التلفاز"" Sur la television" الصادر العام 1996، إنه-أي التلفاز- يمارس نوعاً من الاحتكار "المونوبول" في تشكيل عقول شريحة مهمّة من الناس، وذلك بتعبئته أوقاتهم القليلة بالفراغ أو باللاشيء، الأمر الذي ينأى بالمواطن عن المعلومات  الملائمة التي ينبغي أن يمتلكها بغية ممارسة حقوقه الديمقراطيّة. ولئن اعتبر أنه ليس ضدّ المنافسة في المفهوم الّليبرالي، إلا أنه رأى أنه حين تُمارس هذه المنافسة ما بين صحافيّين أو ما بين صحف خاضعة للمسوحات نفسها وللمعلنين أنفسهم، فإنها تؤدي إلى التجانس أو إلى نوع من الوحدانيّة بدلاً من أن تؤدّي إلى التنوّع. بحيث ينسحب الأمر عينه على الصحف. فيشرح من خلال فصل بعنوان "تأثير الصحافة" التأثيرات الخبيثة للصحافة(مثل السطحيّة والانسياق وغيرها) الناتجة عن خضوعها المتزايد لضغوط السوق، وذلك بما يسهم في تعديل المعايير والممارسات المهنية للصحافيّين من جهة، وفي التأثير السلبي على الحقول الفكرية والثقافية والاجتماعية من جهة ثانية، من خلال إعادة تشكيل الوظيفة الاجتماعية للمثقفين، والذوق الثقافي، وقواعد المنافسة.
في ظلّ هذه التحديات المختلفة التي تواجه الصحافة بعامة، والورقية منها بخاصة، بسبب ارتفاع أسعار الورق والطباعة وتكاليف التوزيع وتقلّص الموارد الإعلانيّة، فضلاً عمّا تقدّمه الإنترنت من وسائل إعلاميّة إذاعيّة وتلفزيونيّة وورقيّة مجتمعةً، يغدو السؤال الجدير بالطرح هو الآتي: وفق أيّ معايير ستستمر الصحف، سواء  بصيغتها الورقية أم الإلكترونية؟ وكيف لهذه الصحف أن تتكيّف مع الثورة التكنولوجيّة الهائلة من دون أن يبتلعها رأس المال العملاق؟ وكيف يمكنها أن تساعد القارئ أو المواطن العربي في التفريق بين الغث والسمين، وأن تقاوم في الوقت عينه ضغوط السوق؟ 
البحث عن النوعيّة
لعلّ التحدّي الأكبر يكمن في حرص الصحيفة الورقيّة على مشروعيتها وعلى صدقيتها التي لا توفّرها المعلومات الموجودة في المواقع الإلكترونية الغزيرة العدد، بما فيها عدد من مواقع الصحف الإلكترونية التي تنشر موضوعات مماثلة ومستهلَكة، كما تقوم بنشر المعلومات نفسها، منقولةً ومترجمةً ومقتبَسةً من مصادر عربيّة وعالمية؛ بحيث يغدو هذا التنوّع مخادعاً وزائفاً.  فيما يكمن التحدّي الأساسي في حرص الصحافة على البقاء كسلطة رابعة في المجتمع، والحرص بالتالي على مهنة الصحافي كمراقب وناقد ودافع للتغيير، خصوصاً أن الإعلام الصحافي الإلكتروني يكاد يقضي على هذا الدور، من خلال تحويل  الصحافي إلى داعية لشركات الإعلان التي تموّل الصحافة الإلكترونية المجانية.
نوعية الصحف تعتمد أساساُ على كفاءة الكتابة والتحرير، حيث الصحافي صاحب الكفاءة المهنيّة والمتفرّغ لعمله، والذي يتمتّع بخبرات تراكميّة. فيما تسمح كفاءة الكتابة والتحرير للوسيلة الصحافية الورقيّة أو الإلكترونية بتقديم القيّم والثمين من المعلومات، في ظلّ العصر المكثّف للمعلومات وسرعة تداولها. كما يسمح استثمار الجديد من أدوات وسائل الإعلام الإلكترونية(التي تكرّس عناصر التفاعل مع المستخدمين، من خلال الصور أو عروض الفيديو وغيرها) للصحيفة الإلكترونيّة بفرض المعلومة الجيّدة والحفاظ على مستوى الكتابة الذي طبع الصحف الورقية المهمّة في العالم بأسره، بما في ذلك عالمنا العربي.  
إن اعتماد شعار النوعية قبل أيّ اعتبار آخر، والاستعداد لمختلف التحديات، ولاسيما القيود التي تواجه الصحيفة الإلكترونية للحدّ من حريّتها بسبب وسائل الرقابة التكنولوجيّة الجديدة، هو التحدّي الأكبر للصحيفة الإلكترونية المستقبلية، المبنيّة على أسس الصحيفة الورقيّة وثوابتها المهنيّة ذات الوظائف والاستهدافات المتعدّدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق