كان الحدث الذي شهدته جزيرة أوتويّا في النروج في 22 تموز/ يوليو الماضي، أشبه بتسونامي إجرامي لا بسبب عدد الضحايا فحسب (92 قتيلاً)، بل أيضاً بسبب وقوعها في بلد اسكندينافي معروف بهدوء العيش والطمأنينة الاجتماعية والسلام، ولم يشهد مثيلاً لتلك الجريمة منذ الحرب العالمية الثانية، فوصفها البعض بأنها "11 سبتمبر نروجي". وهو تسونامي إجرامي لأن الإعلام العالمي لم يكن يتحدّث سوى عن "الإرهاب الإسلامي"، فإذا به يُفاجَأ بـ"إرهاب مسيحي" من شأنه أن يطرح قضية الإرهاب الأصولي بكلّ تنويعاته وتسمياته، سواء كانت عنصرية أم دينية أم سياسية أم غير ذلك من التصنيفات.. كيف حدث هذا الاهتمام بالإسلام خارج النروج وخارج أوروبا لدى شاب نروجي، لولا انخراطه في شبكة أيديولوجية أوسع منه بكثير؟ ففي بيانه الطويل على الإنترنت يُشيد بريفيك بأفكار تحذّر العالم من عودة خليفة المسلمين ليحكم العالم بأسره. كما يُشير إلى العلاقة التي تربطه بمنظمة سرية بريطانية شديدة التطرّف هي "رابطة الدفاع الإنجليزية"، الساعية إلى إنشاء منظمة عصرية تحاكي "منظمة فرسان الهيكل" القروسطية، لبعثها من جديد. من هنا إصرار الشرطة النروجية على كشف خيوط شبكة واسعة تتعدّى حدود النروج: فبحسب تقرير قوى الأمن النروجية هناك "خليتان داخل النروج وخلايا عدّة خارجها". فحينما قال برييفيك للمحققين النروجيين صراحة إن الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه هو "إنقاذ النروج وأوروبا الغربية من الثقافة الماركسية والغزو الإسلامي"، وإنه يريد "التصدّي لأسلمة أوروبا" لم يرُق تصريحه لزعيمة اليمين الفرنسي المتطرّف مارين لوبين.. كما لم يَرُق لجيرت فيلدرز زعيم اليمين المتطرّف في هولندا حتى أن فيلدرز أعلن أن ذلك التصريح فيه "إهانة" للحركة المناهضة للإسلام: "إن تحصّن القاتل وراء فكرة التصدّي للأسلمة لتبرير أعمال العنف يشكّل إهانة للحركة المناهضة للإسلام في العالم". وبطبيعة الحال تُثير تلك التصريحات ردود فعل شاجبة. ففي مناخ سياسي كهذا، من الطبيعي أن يستفيد بعض الطامحين إلى السلطة أو على الأقل إلى رفع نسبة شعبيتهم فيصرّحون بأنهم من أنصار التعدّد الثقافي، حتى إذا ما وصلوا إلى سدّة الحكم وجدوا لأنفسهم مخرجاً للتملّص من وعودهم. بطبيعة الحال، في البلدان الأوروبية تنظيمات سياسية عنصرية لا تخفي عداءها لليهود، إلا أن هذه التنظيمات والأحزاب، تجعل هدفها الأقرب هو النيل من العرب أولاً، فيستفيد من هذه الاستراتيجية اليهود أنفسهم، فتسكت منظمات الدفاع عن حقوقهم، "حقوق الإنسان"، وتسكت عن ممارساتها أحياناً وتُدينها أحياناً أخرى، تبعاً للفوائد التي تجنيها من وراء هذه الّلعبة السياسية الخطيرة: مكافحة العنصرية والسكوت عنها، في آن؛ فعلى الرغم من تهمة ارتكاب "جريمة ضد الإنسانية" التي وجّهها التحقيق النروجي إلى بريفيك، وعلى الرغم من المطلب الذي رفعه الرأي العام النروجي بتعديل قانون العقوبات الذي لا ينصّ على عقوبة خاصة بهذه الجريمة، وهي السجن لمدة 21 سنة، من أجل تشديد هذه العقوبة واستبدالها بحكم الإعدام، فإن بعض الدوائر الإعلامية بدأت تُشيع بأن برييفيك "مختلّ عقلياً" لإسقاط تهمة "جريمة ضدّ الإنسانية" عنه، تماماً كما أُلصِقت صفة "الاختلال العقلي" بقاتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين لأنه شذّ عن السير في المخطّط الصهيوني الهادف إلى تدمير الإسلام في العالم. تنفست الجالية الإسلامية الصعداء في النروج لأن أصابع الاتهام كانت جاهزةً للإشارة سلفاً إلى الجالية الإسلامية التي تعيش فيها، ولأن السلطات النروجية كانت قبل بضعة أيام قد توقّعت "هجوماً إرهابياً إسلامياً". كما أن التقرير الأمني الذي صدر مطلع العام الجاري عن السلطات النروجية، هوّن كثيراً من خطر اليمين المتطرّف في البلاد وهوّل أخطار الجالية الإسلامية. فالإسلام هو الديانة الثانية في النروج، إذ تَراوَحَ عدد المسلمين في العام 2005، بين 120 ألفاً و150 ألفاً، يعيش منهم 40 ألفاً في العاصمة أوسلو. على الرغم من أن الآثار الأولى للوجود الإسلامي في النروج تعود إلى العام 1260 حين نشأت علاقة ودّية بين سلطان تونس وملك النروج هاكون الرابع تحوّلت في ما بعد إلى علاقات تجارية وثقافية، فإن هذا الوجود بقي ضعيفاً هشّاً بالقياس إلى الوجود الإسلامي في بلدان أوروبية أخرى. ولا يمكن القول بوجود جالية إسلامية في النروج إلا بدءاً من العام 1980 حيث تُشير سجلات الإحصاء الرسمية إلى أن عدد أبناء تلك الجالية بلغ 1006 مسلم في ذلك العام، ثم ارتفع في العام 1990 إلى 19189 مسلماً، ثم إلى 56458 مسلماً في العام 2000، فإلى 72023 مسلماً في العام 2006، ليبلغ 79 ألف مسلم في العام 2007. كما أُنشئ أول مسجد في النروج في العام 1974 في إطار "المركز الثقافي الإسلامي" في العاصمة أوسلو، وكان امتداداً للمركز الثقافي الإسلامي في كوبنهاغن في الدانمرك. وينتمي أفراد الجالية الإسلامية في النروج إلى بلدان وأصول عرقية مختلفة، معظمهم من باكستان والعراق وتركيا وإيران والصومال والبوسنة وكوسوفو، يُضاف إليهم نحو 500 نروجي اعتنقوا الإسلام، وفقاً للباحث النروجي كاري فويت Kari Vogt ، كما يبيّن الجدول التالي :
وفي دراسة جديدة قام بها مركز الأبحاث الديمغرافية في واشنطن "منتدى بيو للدين والحياة العامة" (Pew Forum on Religion and Public Life) أن عدد المسلمين في النروج يتزايد بنسبة 166%، أما في الدانمرك فيتزايد بنسبة تفوق 200%، إذ تضاعف خلال السنوات الـ 20 الماضية: ففي العام 1990 كان عدد المسلمين في الدانمرك 109 آلاف مسلم، وفي العام 2010 غدا 226 ألف مسلم. وتُشير الدراسة نفسها إلى أن عدد المسلمين في الدانمرك سيبلغ 317 ألف مسلم في العام 2030، أي 3 أضعاف ما كان عليه في العام 1990. تُضيف الدراسة إياها أن النمو الديمغرافي للمسلمين هو الأرفع بين سكان العالم أجمع؛ ففي العام 1990 كان عدد المسلمين الإجمالي يُعادل خمس سكان العالم، أما اليوم فقد بات يعادل ربع سكان العالم. وتذكر الدراسة أيضاً أن نسبة تزايد المسلمين في أوكرانيا والولايات المتحدة وأسبانيا وبولونيا بلغت 200%، وأن عدد المسلمين في فرنسا ارتفع من مليون ونصف المليون مسلم في العام 1990 إلى 5 ملايين مسلم في العام 2010. وتتوقع الدراسة أن يصل عدد المسلمين إلى 10% من عدد سكان فرنسا في العام 2030. بين أتباع الديانات كافة ثمة من ينحو لأسباب مختلفة نحو التشدّد والتزمت معتقداً خطأً أنه يفعل ذلك خدمةً للدين، في حين أنه لا يفعل إلا ما يخالف جوهر هذا الدين، وهذا ما يسمّى بالأصولية الدينية، التي يُقِرُّ أتباعها بعيوبها في سواهم من الأصوليّين ويُنكِرون تلك العيوب في أنفسهم؛ فالتكفير في الإسلام أصولية إسلامية والصليبية في المسيحية أصولية مسيحية والصهيونية في اليهودية أصولية يهودية. وما دام عيبُ الأصوليات الدينية واحداً، فإن لعبة الاتهامات الأصولية المتبادلة تُخاض اليوم في ملعب الإعلام الدولي. الجدال محتدم في الإعلام النروجي والغربي حول النعت الذي يجب أن يوصَف به بريفيك: إرهابي، أصولي، يميني، ماسوني، نازي، مختل نفسياً؟ ومن أيّ مرض نفساني يعاني: نرجسية مفرطة، انفصام الشخصية، جنون العظمة، تطرّف، جنون...إلخ. جميع النعوت والتسميات مسموح بها باستثناء صفة إرهابي التي يجب أن تبقى محفوظةً للإسلاميّين لا يشاركهم فيها أحدٌ من سائر فئات المجرمين. فصفة "إرهابي" يحرص الإعلام الغربي على عدم المجازفة بإطلاقها على بريفيك وعلى إبقائها وقفاً على المسلمين وحدهم، إذ يجب عدم الخلط بين مسلم إرهابي، حتى ولو بقي في دائرة الشك ولم تثبت إدانته، أي على الرغم من كونه لم ينتقل بعد إلى دائرة الفعل والتنفيذ، وبين أوروبي غير إرهابي حتى ولو قتل عشرات الأشخاص. خلال السنوات العشرين الماضية سادت قناعة سياسية في عموم البلدان الأوروبية مفادها أن اليمين عندما يصل إلى الحكم يحكم ببرنامج اليسار، واليسار بدوره يحكم ببرنامج اليمين.. فما هي مسؤولية الحكّام والساسة ودعاة الأحزاب في المجتمعات الغربية عن ظاهرة الأصوليات اليمينية بمختلف تعبيراتها الدينية والعرقية التي مهّد لها مواقف حكّام أوروبا من العمال المهاجرين إلى بلدانهم، ومن الثقافات المختلفة التي يحملونها معهم، ولاسيما الثقافة الإسلامية؟ تتحمّل التوجهات السياسية الأوروبية جزءاً من المسؤولية في التهاون مع الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة التي تتراوح بين الأصولية الدينية والعنصرية العرقية، وذلك منذ أن أعلنت المستشارة الألمانية إنخيلا ميركيل "موت التعدّدية الثقافية" في ألمانيا، وتلاها رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون بتصريحه "إن التعددية الثقافية آلت إلى فشل ذريع". أما في فرنسا فحتى من قبل أن يصل نيقولا ساركوزي إلى منصب رئاسة الجمهورية وضع برنامجاً متكاملاً لمكافحة شبّان الضواحي المتحدرين من أصول مهاجرة (عملياً، السود والعرب) إرضاءً لليمين الفرنسي بعامة.. فأوروبا كلها متهمَة اليوم في هويتها التعدّدية الثقافية بالشك الذي يُصيب هذه الهوية في الصميم، والذي يأتيها من خلفها ومن بين يديها، وهو شكٌّ يجد ترجمته في كبح عمليات الاندماج الاجتماعي للـ"أجانب" الوافدين والمهاجرين إليها من بلدان أخرى آسيوية وأفريقية وهم في غالبيتهم العظمى عرب ومسلمون. ثمة شبكة عالمية تنسج خيوط الحرب على الإسلام في أوروبا لا تقتصر على السياسيّين. وميركل الحريصة على أمن إسرائيل قبل أمن ألمانيا ليست وحدها التي تشجّع الصليبية الجديدة. ثمة شبكة أخرى من المفكرين السياسيّين تمتدّ من ما قبل هنتغنتون (من برنار لويس ووكلود ستروس أستاذ كيسنجر وبرززنسكي) ولا تنتهي عند الكاتبة اليهودية المقيمة في سويسرا وتستعدّ لنشر كتابها الثاني: "أوروبا والعولمة والخليفة القادم" («Europe, Globalization and the Coming Universal Caliphate») بعد كتابها الأول الذي كان له تأثير واسع في شبّان اليمين المتطرف في أوروبا، والذي تُرجِم إلى سائر الّلغات الأوروبية، وكان له تأثير عميق بخاصة في برييفيك الذي يذكره مرات عدّة في بيانه والكتاب بعنوان "أورابيا، المحور الأوروبي العربي" («Eurabia, l'axe euro-arabe»). أما الكاتبة فهي جيزيل ليتمان Gisele Littman التي تتخذ لنفسها أحياناً اسماً مستعاراً هو "بات يئور" (Bat Ye'or أي "بنت يئور")، والتي صرّحت في أعقاب اعتقال برييفيك إن "بعض الأوروبيّين يرون أن الاستعمار الإسلامي يغزو أوروبا، وإنهم يكنّون شعوراً مكبوتاً إزاء ذلك. فلا بدّ أن يُسفِر الأمر ذات يوم عن موجة عنف عارمة"، وأن "هذا الكبت موجود في بريطانيا وفي فرنسا أكثر ممّا في سواهما من البلدان الأوروبية الأخرى". وأسدَت نصيحة للمحققين النروجيّين بأن "يكونوا أكثر حذراً لأن مشكلة النروج هي مشلكة أوروبية"، وحذّرته من أن يقوم شبانٌ آخرون بتقليد برييفيك". |
الخميس، أيلول ٠١، ٢٠١١
مجزرة أوسلو والأصوليات الدينية: التحقيق والتحليل مستمرّان
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق